في اليوم الدولي للأخوة الإنسانية.. النساء يخضن حروباً صامتة وسط زخم النزاعات
في اليوم الدولي للأخوة الإنسانية.. النساء يخضن حروباً صامتة وسط زخم النزاعات
في ظل النزاعات والحروب التي تعصف بالعالم، غالبًا ما تكون النساء هنّ أولى ضحايا هذه الصراعات، حيث يدفعن الثمن الأكبر من خلال التعرض للعنف والتمييز والتهميش.
وفقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة لعام 2021، تشكل النساء والفتيات حوالي 70% من إجمالي النازحين واللاجئين في مناطق النزاع حول العالم، كما تُظهر إحصائيات منظمة العفو الدولية أن النساء يمثلن نسبة 80% من ضحايا العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات المسلحة.
وتعكس هذه الأرقام حجم المعاناة التي تتحملها المرأة في سياقات الحرب والصراع، لكنها أيضًا تكشف عن دور خفي لكنه جوهري تلعبه النساء في إعادة بناء المجتمعات، رغم كل القيود.
ويحتفل العالم في 4 فبراير من كل عام باليوم الدولي للأخوة الإنسانية، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 2020، كمناسبة لتعزيز الحوار بين الأديان والثقافات، ونشر قيم التسامح والتعايش السلمي بين مختلف شعوب العالم، هذا اليوم يهدف إلى تكريس مبادئ التفاهم والاحترام المتبادل، وتجسيد الروابط الإنسانية التي تتجاوز حدود العرق والدين والجغرافيا.
وفي ظل هذه الأجواء، يتجدد السؤال حول دور المرأة في تعزيز هذه الأخوة الإنسانية، وما إذا كانت تستطيع أن تكون ركيزة لتحقيق السلام المستدام في مجتمعات مزقتها الحروب.
تحديات مركبة
في مجتمعات ما بعد الصراع، تواجه النساء تحديات مركبة، ليس فقط بسبب الإرث الثقيل للنزاعات، ولكن أيضًا نتيجة للنظم الاجتماعية التي غالبًا ما تعيد إنتاج التمييز والإقصاء، وتشير دراسة أجرتها الإسكوا عام 2022 إلى أن النساء في دول مثل العراق وسوريا واليمن يعانين من صعوبة في الوصول إلى مواقع صنع القرار، حيث لا تتجاوز نسبة تمثيل النساء في البرلمانات 15%، مقارنة بمتوسط عالمي يصل إلى 25%، هذه الفجوة في التمثيل السياسي تنعكس سلبًا على قدرة النساء في التأثير على سياسات السلام وإعادة الإعمار، مما يحد من قدرتهن على الإسهام في بناء مجتمعات أكثر شمولًا وعدالة.
رغم هذه التحديات، تُظهر الدراسات أن إشراك النساء في عمليات السلام يزيد من احتمالية استمرارية الاتفاقيات بنسبة 35%، ووفقًا لتقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" لعام 2020، في كولومبيا، على سبيل المثال، كانت النساء جزءًا أساسيًا من المفاوضات بين الحكومة والقوات المسلحة الثورية (فارك)، حيث ساهمن في تضمين قضايا النوع الاجتماعي في الاتفاق النهائي لعام 2016، مما أدى إلى تعزيز استدامة السلام وتقليص العنف القائم على النوع بنسبة 26%، حسب إحصائيات اللجنة الوطنية للتعويض والمصالحة.
وبجانب المشاركة السياسية، تلعب النساء أدوارًا محورية في بناء السلام من خلال المبادرات المجتمعية. في ليبيريا، قادت الناشطة ليما غبوي حركة سلمية أدت إلى إنهاء الحرب الأهلية في 2003، وأسفرت عن انتخاب إلين جونسون سيرليف كأول امرأة تتولى رئاسة دولة في إفريقيا، وهذه التجربة أكدت أهمية القيادة النسائية في تجاوز الانقسامات الاجتماعية وتحقيق المصالحة الوطنية، ووفقًا لدراسة أجرتها جامعة هارفارد، فإن البلدان التي تُشارك فيها النساء بفعالية في عمليات السلام تشهد انخفاضًا في معدلات الانتكاسة إلى الصراع بنسبة تصل إلى 50%.
تحديات اقتصادية
ولا تقتصر التحديات على الجانب السياسي فقط، بل تمتد إلى الأبعاد الاقتصادية أيضًا، بحسب تقرير للبنك الدولي، فإن احتمالية فقر النساء في دول ما بعد الصراع تزيد بنسبة 24% مقارنة بالرجال، حيث تؤدي النزاعات إلى تدمير البنية التحتية الاقتصادية، مما يحد من فرص النساء في الوصول إلى سوق العمل في رواندا، وبعد انتهاء الإبادة الجماعية، شكّلت النساء 70% من القوى العاملة في البلاد، مما ساعد على تحقيق نمو اقتصادي سنوي بلغ 7.8% منذ عام 2000، وفقًا لتقرير البنك الدولي لعام 2021. هذا النمو يعكس كيف يمكن لتمكين النساء اقتصاديًا أن يكون له تأثير مباشر على الاستقرار والتنمية.
وفي إطار تعزيز الأخوة الإنسانية، يُعد التعليم من أهم الأدوات التي تسهم في تغيير السلوكيات وتعزيز قيم التفاهم والقبول، وتُظهر بيانات اليونسكو أن نسبة التحاق الفتيات بالمدارس في الدول المتأثرة بالنزاع تقل بنسبة 30% مقارنة بالفتيان، مما ينعكس على فرصهن المستقبلية في المشاركة المجتمعية والاقتصادية، لذلك فإن الاستثمار في تعليم الفتيات في هذه السياقات يمكن أن يكون له أثر عميق في تمكينهن من لعب أدوار قيادية في مجتمعاتهن.
وتواجه النساء في مجتمعات ما بعد الصراع تحديات في الوصول إلى العدالة، وتشير تقارير منظمة العفو الدولية إلى أن 70% من النساء في هذه السياقات يفتقرن إلى الحماية القانونية، حيث غالبًا ما تُستخدم قوانين العفو أو المصالحة كوسيلة لتجنب محاسبة مرتكبي العنف الجنسي. في سيراليون، وبعد انتهاء الحرب الأهلية، لم تتجاوز نسبة النساء اللواتي حصلن على تعويضات عن الأضرار التي لحقت بهن 5%، حسب تقرير المركز الدولي للعدالة الانتقالية.
بين الشعارات الحقوقية وواقع التمييز
وقالت خبيرة حقوق الإنسان اليمنية، سونيا صلاح، إن التمييز ضد المرأة في المجتمعات المتأثرة بالنزاعات والحروب ليس مجرد نتيجة عرضية للحرب، بل هو امتداد لهيمنة نظم اجتماعية واقتصادية وقانونية مترسخة تُكرّس الإقصاء وتضعف فرص المرأة في المشاركة الفعالة. مبدأ المساواة وعدم التمييز، كما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الأولى، يُلزم الدول والمجتمعات بتوفير الحماية اللازمة للمرأة وتمكينها من ممارسة حقوقها على قدم المساواة مع الرجل، لكن الواقع يُظهر فجوة واضحة بين هذه المبادئ والتطبيق الفعلي لها.
وتابعت سونيا صلاح، في تصريحات لـ"جسور بوست"، في الأطر القانونية، لا تزال العديد من الدول، خاصة تلك الخارجة من النزاع، تُطبق قوانين غير منصفة تُحجم مشاركة النساء في عمليات صنع القرار، مبدأ المشاركة في الشأن العام، الذي أكدته المادة 25 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، يقضي بحق كل مواطن في المشاركة في إدارة الشؤون العامة، لكن السياسات التمييزية تُقصي المرأة من المواقع القيادية وتجعل من تمثيلها السياسي رمزيًا أكثر منه مؤثرًا، وفي كثير من الحالات، يُستخدم تمكين المرأة كشعار دون اتخاذ تدابير حقيقية لضمان إدماجها في عمليات السلام والحوكمة، مما يؤدي إلى استمرار التهميش ضمن مؤسسات الدولة.
وأشارت إلى أن مسؤولية الدولة في حماية النساء من العنف خلال النزاعات تتجاوز مجرد إدانة الجرائم، بل تفرض عليها التزامات قانونية لضمان المساءلة وإنصاف الضحايا. اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) تُلزم الدول الأطراف باتخاذ تدابير فعالة لحماية النساء من العنف القائم على النوع الاجتماعي، ومع ذلك، فإن القوانين والممارسات لا تزال تتسامح مع مرتكبي هذه الجرائم تحت ذرائع العفو والمصالحة، مما يُفقد العدالة معناها ويُعمّق من إحساس النساء بانعدام الأمان.
وعن التمكين الاقتصادي للمرأة، أكدت سونيا صلاح، أنه بُعد آخر يُهمل في النقاشات حول الأخوة الإنسانية، رغم أنه يُعدّ ركيزة لضمان مساواة حقيقية. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته 23 يؤكد حق كل إنسان في العمل بشروط عادلة ومنصفة، لكن النساء في مناطق النزاع يواجهن عوائق متعددة تحول دون دخولهن سوق العمل أو الاستفادة من الموارد الاقتصادية. استراتيجيات التعافي الاقتصادي غالبًا ما تركز على إعادة تأهيل البنية التحتية المادية دون الاستثمار في الموارد البشرية، مما يترك النساء في دائرة الفقر والتبعية الاقتصادية، ما يحول دون تحقيق سلام مستدام.
وأشارت إلى أن غياب الاعتراف الحقيقي بدور النساء في بناء السلام يكشف عن ازدواجية في التعامل مع قضايا العدالة والمساواة، في حين يتم الترويج لصورة المرأة كضحية تحتاج إلى الحماية، يتم تجاهل دورها الفاعل في المصالحة وصنع القرار، فمبدأ المشاركة المنصفة، الذي يعدّ أساس العدالة الاجتماعية، يتطلب تغييرات جذرية في البنية التشريعية والسياسية لضمان أن تكون النساء جزءًا لا يتجزأ من عمليات إعادة الإعمار، وليس مجرد مستفيدات من برامج الإغاثة.
وأتمت، إذا كانت الأخوة الإنسانية تعني الاعتراف المتبادل والاحترام، فمن غير الممكن تحقيقها في ظل أنظمة تُقصي النساء من تقرير مصيرهن.
إقصاء المرأة ما بعد الصراع
وقال أستاذ علم الاجتماع العراقي، محمود الحمداني، إنه في المجتمعات التي تمر بنزاعات، يظهر حجم التناقض بين الشعارات الداعية إلى الأخوة الإنسانية والواقع الاجتماعي الذي تعيشه المرأة، فبينما تُرفع لافتات المساواة والعدالة، لا تزال النساء يواجهن أشكالًا مركبة من التمييز تتغلغل في البنية الاجتماعية العميقة، مما يؤثر على دورهن في تحقيق السلام وإعادة بناء المجتمعات، ولا يكمن التحدي فقط في القوانين أو السياسات الرسمية، بل في الثقافة الاجتماعية التي غالبًا ما تعيد إنتاج التمييز.
وتابع الحمداني، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن التمييز ضد المرأة في السياقات الاجتماعية لا يقتصر على العنف المباشر أو التهميش الاقتصادي، بل يتخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا تمتد إلى التنشئة الاجتماعية والمفاهيم السائدة حول دور المرأة. في العديد من المجتمعات، يتم تنشئة الفتيات على الطاعة والخضوع، مما يقلل من ثقتهن في قدرتهن على القيادة واتخاذ القرار، وهذه التنشئة تعزز ترسيخ أدوار اجتماعية تقليدية تحصر المرأة في أدوار هامشية، حتى في ظل أزمات تحتاج إلى مشاركتها الفعالة في إعادة بناء المجتمع، والنتيجة أن النساء يُستبعدن من مواقع التأثير الحقيقية، رغم أنهن يتحملن العبء الأكبر من تبعات النزاعات.
وأشار إلى أن إحدى المشكلات الاجتماعية العميقة التي تواجه النساء في هذا السياق هي النظرة المجتمعية التي تعتبر السلام مسألة ذكورية، حيث يُنظر إلى الرجال بوصفهم صانعي القرار في الحروب كما في السلم، وهذا التصور يقصي النساء من العمليات التفاوضية، رغم أنهن غالبًا أكثر الفئات إدراكًا لأهمية المصالحة واستعادة النسيج الاجتماعي، فبينما يتصدر الرجال طاولات الحوار، تكون النساء في الصفوف الخلفية، يُطلب منهن المساهمة في إعادة البناء من خلال العمل المجتمعي، لكن دون منحهن فرصة التأثير الحقيقي في السياسات التي تحدد مصير البلاد.
وقال الحمداني، إن غياب المرأة عن دوائر صنع القرار لا يؤثر فقط على النساء أنفسهن، بل يمتد ليشمل المجتمع بأسره، فالمجتمعات التي تهمش المرأة تفقد نصف إمكانياتها في بناء مستقبل أكثر استقرارًا، والدراسات الاجتماعية الحديثة تؤكد أن المجتمعات التي تمنح النساء دورًا متساويًا في عمليات السلام والمصالحة تكون أقل عرضة للعودة إلى النزاعات، لأن المرأة تميل إلى التركيز على الحلول المستدامة بدلًا من المصالح الفئوية قصيرة الأمد، وحين يتم استبعاد المرأة من هذه العمليات، يصبح السلام هشًا وقائمًا على تسويات مؤقتة لا تعكس احتياجات المجتمع بأسره.
وعن التمييز الاجتماعي قال: إنه لا يضر فقط بالحياة العامة للنساء، بل يتسلل إلى العلاقات الأسرية، مما يخلق فجوة بين الأجيال ويؤثر على النسيج العائلي، ففي المجتمعات التي تمر بصراعات، تتحمل المرأة مسؤوليات إضافية نتيجة غياب الرجال بسبب الحرب أو اللجوء أو الاعتقال.
وأكد الحمداني أن تجاهل دور المرأة في بناء السلام يفاقم من أزمة الهوية لدى الأجيال الجديدة، خاصة الفتيات اللواتي يكبرن في بيئات تفتقد إلى نماذج نسائية قيادية. عندما لا ترى الفتاة في مجتمعها نساءً في مواقع القرار أو ضمن عمليات المصالحة، فإنها تستبطن هذه الفكرة وتفقد الإيمان بقدرتها على التغيير، وهذا يؤدي إلى دورة مستمرة من الإقصاء، حيث تتجنب النساء خوض غمار العمل العام نتيجة شعورهن بأن جهودهن لن تكون ذات تأثير حقيقي.
وأوضح أن المجتمعات التي تعاني من نزاعات تحتاج إلى إعادة بناء ليس فقط على المستوى السياسي والاقتصادي، بل أيضًا على المستوى الاجتماعي والثقافي، ومن دون تغيير جذري في النظرة إلى دور المرأة، فإن فرص تحقيق سلام دائم ستظل محدودة، المطلوب هو إعادة النظر في الهياكل الاجتماعية التي تعيد إنتاج التمييز، وتعزيز ثقافة مجتمعية ترى في المرأة شريكة حقيقية في بناء المستقبل، لا مجرد عنصر داعم أو تابع.
وأتم، بدون مساهمة النساء بشكل كامل وفعال، ستظل الأخوة الإنسانية مجرد شعار، والسلام مجرد هدنة مؤقتة تنتظر الانفجار التالي.